فرعون – بجاية… من إعداد مازيغ ا
في أعماق جبال منطقة فرعون بولاية بجاية، وبين قرى إيشكابان، يادننين وآيت أونير، يتوارث السكان منذ عدة قرون مهنة فريدة من نوعها: استخراج الملح من منبع طبيعي يُعرف باسم “إيملاحان”. هذه الحرفة، التي قد تبدو بسيطة في ظاهرها، تختزل في طياتها تراثًا ثقافيًا ضاربًا في عمق التاريخ، وشكلًا من أشكال التعايش الجماعي النادر في زمننا الحالي.
تنظيم تقليدي قائم على العدل والتناوب
ما يميّز مجتمع إيملحان ليس فقط قدرتهم على استغلال مصدر الملح، بل ذكاؤهم الاجتماعي في تنظيم العملية. فقد أقرّ السكان نظامًا دقيقًا يُعرف بـ”نوبة”، تقوم فيه كل عائلة بالاستفادة من المصدر لفترة محددة، في احترام تام لمبدأ التناوب والتقاسم العادل. هذا النظام منع نشوء النزاعات وضَمِن استمرار النشاط في سلم وتعاون.

مهنة شاقة… لكن مفعمة بالفخر
يصف “حسين أدناني”، أحد آخر ممتهني هذه الحرفة، مهنة استخراج الملح بأنها من “أكثر المهن مشقة”. فاليوم يُقسم إلى شطرين: جمع الملح مساءً، وملء الأحواض بالمياه المالحة صباحًا، وهي عملية تستنزف طاقة جسدية هائلة. يُعرف الحوض باسم “أولميم”، فيما يُنقل الملح بعد جمعه إلى مكان التجفيف المعروف بـ”أسلات”. لنقل الماء وحده، يُضطر العامل إلى النزول والصعود عشرات المرات، مع كل ما يتطلبه ذلك من جهد بدني متكرر.
رحلة تسويق شاقة… على ظهور الحمير
لا تتوقف معاناة المستخرجين عند حدود جمع الملح، بل تمتد إلى تسويقه. فعلى الرغم من تراجع الطلب المحلي، يقطع المستخرجون أكثر من 50 كيلومترًا، في رحلة مضنية على ظهور الحمير، لإيصال منتوجهم إلى الأسواق البعيدة. ورغم الصعوبات، لا تزال عزيمتهم متقدة، مدفوعة بحبهم لهذه المهنة وارتباطهم بها.

مهنة مهددة بالاندثار
ورغم عمق هذه الحرفة وأهميتها، إلا أنها تواجه خطر الاندثار. فلم يتبقَّ اليوم سوى أربعة رجال يواصلون هذا التقليد: حسين أدناني، لخضر كماشة، إسماعيل بوكماشة وبن دحمان حميد. ومع غياب الدعم وضعف المردود الاقتصادي، تبدو الأيام القادمة أكثر صعوبة لمهنة قد تطويها الذاكرة الجماعية.
تراث يستحق الإنقاذ
إن مستخرجي الملح في إيملحان ليسوا مجرد عمّال، بل هم حراس لذاكرة جماعية وهوية ثقافية نادرة. هم نموذج لمجتمع عاش متصالحًا مع الطبيعة، ومتمسكًا بقيم العدل والتعاون. وفي الوقت الذي تتهدد فيه هذه المهنة بالزوال، تبرز الحاجة إلى التحرك من أجل صون هذا التراث، وتثمينه ضمن السياسات الثقافية والتنموية.
فمن واجبنا، كأفراد ومؤسسات، أن نمنح هؤلاء الحرفيين المكانة التي يستحقونها، وأن نُسهم في حفظ هذا الإرث من النسيان، لأنه يمثل أحد وجوه الثراء الثقافي والإنساني لمنطقة القبائل وللجزائر ككل.
